الاثنين، 3 يوليو 2017

العــــــلاج النفسي في الحضارة العراقية  /Gilgamesh Sumerian ( علي اركان )

التراتيل السومرية تطورت حتى أصبحت فناً يمارس تأثيراً إرشادياً وإيحائياً فاعلاً في المرضى شريعة حمورابي حررت العلاج من خرافات الكهنة وأوكلته للأطباء
قد يسأل سائل ما: هل كان هناك علاج نفسي في الحضارات القديمة؟ فنجيب: الأمر بديهي، فحيثما وجد الإنسان وعاش، لابد هناك من وسائل يبتكرها لتخفيف ودفع كل ألم يلـّم به سواء كان جسديا أم نفسياً . وفي هذه الإطلالة الموجزة سنلخص بعض إنجازات العراقيين القدماء في هذا المجال، برغم أنها لا تستوفيها كلها.
السومريون

كان مفهوماً لدى السومريون أن للأمراض أسبابها وعلتها، وقد عرفوا بمبدأ مشهور أن لكل داء دواء. لذا علا شأن الطب عندهم، ولكنه ظلّ يختلط بالدين والطقوس المتعلقة به. فالمرض لا يمكن شفاؤه إلا إذا طردت الشياطين من جسم المريض، لأن الأمراض تنشأ من تقمصها هذه الأجسام. ويشمل هذا الإنسان والحيوان على حد سواء.

واتخذ السومريون أساليب في العلاج نابعة من تنظيراتهم الشمولية للكون والإنسان وتصوراتهم عنهما. وقد دلتنا الرقم الطينية التي عثر عليها أن مظاهر تلك المعالجات تأتي مقرونة دائما بطقوسهم الدينية، و باسم اله من الآلهة يكون مكلفاً بمهمة خاصة في الشفاء. فقد عبدوا (ايرو) اله المرض والوباء ،إذ كانوا يحضّرون لطقوس الشفاء في مراسيم خاصة، فيجلبون معهم آلاتهم، وينشدون التراتيل، ويحملون التعاويذ والنذور، بوجود شخص يتصدر هذه المراسيم يكون له سطوة وذا مكانة دينية معروفة. وتعزى الأمراض في هذه التراتيل إلى الشياطين، فيكون العلاج بالدرجة الأولى عن طريق التعاويذ والرقي.

ونجد في طرف آخر أن السومريين قد عبدوا (ايا) اله الحكمة والشفاء، كما عبدوه من بعدهم الاكديون والبابليون والآشوريون. وكان هذا الإله يتردد ذكره كثيراً في النصوص والتعاويذ السحرية والأدعية والصلوات الدينية والحكمة والطبابة. فإذا ما أصيب إنسان ما بمرض من جراء دخول(الأرواح الخبيثة) في مكان ما من جسمه، فإن الإله (ايا) يخرجه من جوفه وينقذه منه؛ بمعنى أن مهمة اله الشفاء تتمثل في قدرته على شفاء الأرواح المعذبة وتحرير المرضى الواقعين تحت رحمة المرض، الذي غالباً ما يكون مصدره شراً من خارج الإنسان.

ويلاحظ أن تركيز السومريين على التراتيل في العلاج وعنايتهم الفائقة بتأليفها حتى أصبحت فناً راقياً ومتطوراً، يعدّ دليلاً على أهمية الكلمة وما لها من أثر توجيهي وإرشادي وإيحائي في المريض.

أما الطبيب فكان يتمتع بمكانة اجتماعية عالية بعض الشيء. وكان يُعرف في اللغة السومرية بلفظة (آ √ زو) التي تعني ترجمتها الحرفية بــ (عارف الماء). أما أول طبيب سومري ورد ذكره في الألواح الطينية مارس الطب آنذاك، فيدعى (لولو). ونرى أن سبب تسمية الطبيب بعارف الماء يعزى لما كان للماء من مكانة طقوسية في التطهير وأسباب الحياة التي يمد بها الإنسان.

ونلاحظ أن القائم على العلاج(النفسي والروحي) يكون بمثابة (واسطة) تتم من خلالها عملية التوصيل. وتكون إجراءاته مصحوبة بسلسلة من التحضيرات مثل مواد معينة وتراتيل. وقد هيمن الماء على تلك المواد الطبيعية، وتحديداً (ماء الحياة) الذي يطهر المرضى من الخبائث وينجيهم من الأمراض ويعين الذين يصيبهم مس من الجنون والذين تقمصتهم الأرواح الشريرة. ولذلك كان يتم إنشاء مراكز الشعائر عند مصبات المياه العذبة.

البابليون كان للحضارة البابلية التي ورثت حضارة سومر، فرادتها وإبداعها وإضافاتها العملاقة في مجالات خصبة لازالت حتى الآن ذات جدوى. ونلمس أول ملمح مهم وجاد في الحضارة البابلية على صعيد الطب والعلاج بمختلف أنواعه، في ما كان لشريعة حمورابي من أثر في تنظيم علاقة الطبيب بالمريض. وكانت أهم الخطوات أن علاج المرض قد خرج إلى حد ما عن اختصاص الكهنة وسيطرتهم، ونشأت مهنة منتظمة للأطباء ذات أجور وعقوبات يحددها القانون. فكان المريض يستدعي طبيباً لزيارته مقابل مقدار معين من المال يجب أن يعطيه نظير هذا العلاج أو ذاك.

إن النصوص البابلية وخصوصاً شريعة حمورابي، تعد عند مؤرخي العلم والحضارة مهمة جداً وخصوصاً في حقل الطب، لأنها تحررت من الممارسات الخرافية واللاأخلاقية. وتمثل ذلك في إضعاف نفوذ الكهنة وحظوتهم عند الناس والإعلاء من شأن الأطباء. فقد كان تأثير الكهنة يأتي من قوة الإيحاء الذي يمارس على المريض، وما ينطوي عليه نفوذهم من جاذبية ومقدرة في سيطرتهم على العقول. فالإيحاء مرتكز مهم في العلاج السحري في الحضارات القديمة، خصوصاً إذا ما كانت ترافقه طقوس وإجراءات تعمق من قوة الإيحاء والإيهام لدى المريض. وقد لا يقل الإيحاء في القديم عن الإيحاء في العصر الحديث في جدواه في العلاج، إذ استخدمت العديد من المدارس الحديثة العلاج النفسي بالإيحاء ومنها مدرسة التحليل النفسي.

وقد تعامل هؤلاء (الكهنة) مع الأمراض العقلية والنفسية و أسبابها من باب (الاستحواذ العقلي والنفسي). فقد عرفوا ماهية المرض من خلال الأرواح الشريرة، وما تنزله في الإنسان من أذى. وهناك خطوة أخرى مهمة كان يقوم بها رجل الدين (الكاهن) تجعل من علاجه ذا جدوى وتأثير بالغ، وهي التدرج في عملية العلاج، إذ نرى خطوات تبدأ من نداء يقوم به الممارس للروح الشريرة التي هي سبب المرض من اجل السيطرة عليها وإبطال نفوذها والقضاء على تأثيرها في المريض من خلال تحويلها إلى مادة محسوسة يتم القضاء عليها، كأن يحولها إلى إناء به ماء ثم ينكسر الإناء أمام المريض فيراق ما به من ماء، أو يحولها إلى تمثال من خزف يربط بجسم المريض ثم يرفع عنه، أو إلى جسم حيوان يوضع فوق جسم المريض ثم يرفع عنه.

لقد عرف البابليون الكثير من الأمراض وربطوها بعوامل نفسية منها الجزع وفقدان الهمة، وفرقوا بين أسبابها. كما استخدم البابليون طرق العلاج بالتنجيم نتيجة اهتمامهم بعلم الفلك والنجوم والأبراج، إذ كان الاعتقاد السائد بينهم أن للنجوم قوة سحرية ومقدسة لها تأثير مباشر في قوة الإنسان النفسية ومزاجه، وإنها تحتوي على إرادة عاقلة. وهنا برز ما يسمى بـ(التنجيم النفسي). فقد حدد البابليون صفات وسمات لكل نجم يتبادل التأثير مع معدن أرضي، وخصوصاً الكواكب السبعة، إذ ربطوا الرصاص بزحل، والقصدير بالمشتري، والحديد بالمريخ، والذهب بالشمس، والنحاس بالزهرة، والفضة الخفيفة بعطارد، والفضة بالقمر. وقد استمرت هذه النظرة في الكثير من فلسفات العالم، إذ بنى بعض الأوربيين في مرحلة القرون الوسطى بعض تصوراتهم النفسية على أساس ارتباط العمليات الكيميائية المعدنية بمواقف الناس ومشاعرهم. فالسيكولوجية المبنية على المعادن وعلاقتها بالنفس والعقل، والتي استحدثها البابليون، أصبحت جزءاً من الفكر النفسي والروحي الأوربي.

ونرى أن هناك تناظر مذهل بين (الكيمياء الذهنية) والسيكولوجيا البابلية. فنزعة الكيمياء الذهنية التي تعتقد بان الأفكار تتجمع في الذهن مثل عملية الاتحاد الكيمياوي بين العناصر وحين تتفاعل في ما بينها تكون عنصراً جديداً، انتشرت في أوربا في القرون ما بعد الوسطى، وتأثر بها المفكر(جون ستيوارت مل) (1806-1873) م الذي اعتقد أن الأفكار البسيطة حينما تتحد فيما بينها تؤلف أفكاراً اكثر تعقيداً.

إن هذه الإطلالة الموجزة، ترسم خطاً بسيطاً وإشارة لافتة، لما كان عليه السومريون والبابليون من تطور في مجالات الطب والعلاج النفسي، ولكنها لا تستوفي الموضوع كله.

 مصادر داعمة للبحث:
* عبد الحميد العلوجي/ تأريخ الطب في العراق
* فاضل عبد الواحد/ سومر أسطورة وملحمة.
* قيس النوري/ الانثربولوجيا النفسية.
* كريمر/ السومريون
* خزعل الماجدي / بخور الالهه
* طة باقر و ثامر سليمان و فاضل عبدالواحد / حضارة العراق
* جورج رو / العراق القديم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق